بقلم الدكتور عثمان قدري مكانسي
لا أدري لِمَ تَنَادَتْ نفسي إلى نفسي لتعقد مقارنة بين رحلتين متشابهتين، أما الأولى فرحلة لا تتجاوز الحياة الدنيا، قصيرة، قد نعرف أكثرها، حين لمسناها خبراً ممن أدوها وعادوا إلينا، أو رأيناه عياناً على شاشات الرائي بتفاصيله الدقيقة.
وأما الرحلة الثانية فلمّـا يحن وقتها للحي الذي يعيش على بساط الدنيا، ولكنها آتية لا ريب فيها، حاصلة لا شك في حصولها، إلا أنها الرحلة النهائية عن الحياة، فلا عودة منها … رأينا بدايتها، ولمسنا من القرآن الكريم وحديث الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم ملامحها …
فهل نعقد مقارنة توضح التشابه الكبير بين الرحلتين؟ فلنبدأ إذاً بقلوبنا قبل أعيننا، بأرواحنا وأفئدتنا قبل المحسوس منها لنقتطفَ العبر والعِظات، فنعيشَهما رأيَ البصر والبصيرة…
اللهم أحيِ قلوبنا وأرواحنا بأفضالك وألطافك في الدنيا، وتقبل أعمالنا واجعلنا أهلاً لعفوك ومغفرتك في الدنيا والآخرة، وأبعدنا عن النار، واكتب لنا رضاك في دنيانا والجنة في الآخرة …
اللهم آمين …
-
1- يخطط المؤمن للحج ويجهز ما يلزمه في رحلته ذهاباً وعودة، وحركة ومالاً حلالاً، وقبل ذلك كله يعقد النية على أن يكون عمله خالصاً لوجه الله الكريم، ويتفقه في مناسك الحج، ليكون أداؤه صحيحاً مقبولاً … والمسلم المؤمن يعلم أنه راحل يوماً من الأيام – لا ريب في ذلك – فيحافظ على أداء الفروض من صلاة وزكاة وصيام، ويعامل الناس بالقسط فلا يظلمهم، ويحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والإساءة إلى عباد الله ويتقي الله تعالى في كل شاردة وواردة.
-
2- ينطلق الحاج إلى الأرض المقدسة تاركاً المال والعَقارات والأهل والأصحاب طواعية ميمماً وجه الكريم ولا يعلم: أيعود أم لا يعود، يرى سعادته في أداء المناسك بوجه يرضي المليك، ويحاسب نفسه ماذا فعل وما ينبغي فعله، وقد وكل أمره إلى الله…
ويترك الراحل إلى الآخرة داره وأهله وماله فجأة ميّتاً، فلا عودة إلى الدنيا أبداً، وفي القبر يحاسبه المَلَكان ويُريانه مكانه من الجنة أو النار، نسأل الله العافية وحسن الختام.
-
3- فإذا وصل الحاج إلى الميقات خلع عنه ثيابه واغتسل ولبس البياض – ثياب الإحرام ليكون فرداً لا يتميز عن سواه بشيء – ونوى الحج وصلى ركعتين وانطلق ملبياً يوحد الله ويخصه بالعبادة وهذا دأب المسلم أينما كان وحيثما ولّى وجهه… ويموت الإنسان إذا حان ميقاته فيخلع عنه أهله ثيابه ، ويغسلونه، ويكفنونه بالبياض، ويصلون عليه، فإذا قبره لا يتميز عن قبور الموتى بشيء .
-
4- وفي مِنى يُجَهز الناس أنفسهم للوقوف بين يدي الله تعالى يوم النحر؛ عرفات على صعيد واحد،، وهناك يسكبون العبرات، ويسألون الله العفو والغفران ، ويجأرون بالدعاء راجين العفو والرحمة ، فيقول الله تعالى حين ينزل إلى السماء الدنيا للملائكة: هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي وهم لم يروني فكيف لو رأوني ، فلو كان علينا مثل رمل عالج ذنوبا أو قطرَ السماء أو عددَ أيام الدنيا غسلها عنا سبحانه من عفو غفور ، وفي مزدلفة يشتد الدعاء والرجاء أن يعفو الكريم عن الذنوب ويقبلَ عباده في الصالحين … مواقف ثلاثة يقف فيها الحاج يسأل الله تعالى ما أحب من خير الدنيا والآخرة (منى وعرفات ومزدلفة)…. ويومُ القيامة مواقف متعددة أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم، موقف لا يُسألون فيه ” فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ، فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جانّ ” وموقف توزع فيه الصحف على العباد ويُسألون عما فيها ” فوربك لنسألنّهم أجمعين عما كانوا يعملون ” وهم عريُ غُرلٌ ، لا يملكون من أمورهم شيئاً ” والأمر يومئذ لله ” بل الأمر في الدنيا والآخرة بيد الله ، يصرّف الأمور كيف يشاء . ويوم على الصراط ، ويوم…. .والأخرة يوم طويل ذو مواقف متعددة
-
5- وفي منى على مدى ثلاثة أيام يرمي المسلمون الجمرات، ويعلنون براءتهم من الشيطان وأتباع الشيطان ويَرْمُون – برمي إبليس – وساوسـَه ويُعْلنون عصيانه ويتمسكون بطاعة الله تعالى، فما يُرى يومٌ إبليسُ فيه مَخزيٌ كذلك اليوم، يقول : أتعبت نفسي وأتباعي بإغوائهم وإضلالهم، ويغفر الله لهم هذا اليوم.
وفي الآخرة حين يحمل المسلمون كُتبهم بأيمانهم فائزين بالجنة ناجين من النار يوم القيامة يُرى إبليس والشياطين خزايا أذلاء، يساقون إلى النار ومَن تبعهم، وقد أفلح في الدنيا من رجم إبليس كل يوم، وعصاه فدحَره حسيراً خزيان، وكان هو من أهل الجنة والرضوان.
-
6- يحج المسلمون إلى مكة والبقاع الطاهرة، ويحج الفسقة والكافرون والمنافقون إلى أهوائهم وملذاتهم ، فإذا هم فريقان متنافران قلوباً وإن اجتمعوا أشباحاً وأجساماً …. ويوم القيامة يُفصل بين الطرفين ” احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ” ويقول تعالى ” ويوم تقوم الساعة يومئذٍ يتفرّقون ” بل إن المنافقين الذين كانوا يصلون في المساجد رياء يُفصلون عن المؤمنين لأنهم ليسوا منهم ” يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ،
قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ، فضُرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَلِه العذاب . ينادونهم : ألم نكن معكم ؟
قالوا : بلى ، ولكنكم فتنتم أنفسكم ، وتربصتم وارتبتم ، وغرتكم الأمانيّ ، حتى جاء
أمر الله وغرّكم بالله الغَرور. فاليوم لا يُؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار ، هي مولاكم وبئس المصير ”
7 – الكون كله يدور بإذن الله تعالى وقدرته ، فهو بيد من خلقه وأبدعه . وحياة البشر كذلك تدور حول مرضاة الله ، فتلتزم طاعته بالعمل بما أمر والانتهاء عما نهى ، ومن رموز طاعته سبحانه بيتُه العتيق يتوجه إليه المسلمون من كل أنحاء المعمورة بصلاتهم ودعائهم ، ثم يحجون إليه معلنين العبودية لرب هذا البيت المبارك . ويطوفون حوله بأجسادهم وقلوبهم ، ثم يسعون بين الصفا والمروة سعياً حثيثاً ملبـّيـن داعين ، ويردد الكون معهم التلبية والدعاء ….وفي اليوم الآخر ترى البشرية محشورة في صعيد واحد لا ترى فيه اعوجاجاً ولا ارتفاعاً قلوبهم وألسنتهم متصلة بالله .. المسلمون يسألون الله أن ينجز وعده لهم – إذ أفردوه بالوحدانية – بالنجاة من النار والفوز بالجنة وتراهم يسعون بين الأنبياء ليشفعوا لهم من الموقف العصيب ، فيتنصل آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام من الشفاعة العظمى ، ويتصدى لها الحبيب محمد فيقول : أنا لها، أنا لها .
-
8- وترى المسلمين عائدين من رحلة الحج وقد غفر الله تعالى لهم بفضله ومنّه وعظيم كرمه ، يستقبلهم أهلوهم بالفرح والشوق والعناق ، ويحق لهم هذا الاستقبالُ الطيب ، فقد عادوا كيوم ولدتهم أمهاتهم ، لا ذنب لهم ولا آثام ليستقبلوا حياة الطهر والاستقامة كما وعدوا ربهم سبحانه في حجهم إلى بيته حتى إذا ما لقوه في الرحلة إلى الآخرة كان راضياً عنهم فاستقبلهم استقبالاً حسناً إن شاء الله … وفي اليوم الآخر بعد الحساب – ولا حساب إن شاء الله ، بل هو عرض وعفو وكرم – وبعد المرور على الصراط والوقوف أمام أبواب الجنة الثمانية – كل حسب الباب الذي يناسب أحسن أعماله – يدخلون الجنة فينطلقون إلى مساكنهم التي أعدها الله لهم ، فهم يعرفونها أكثر مما يعرفون بيوتهم في الدنيا ، فتستقبلهم الملائكة قائلين ” سلام عليكم ، طبتم فادخلوها خالدين ” وترى الولدانَ المخلدين وخدّامَهم ونساءَهم من أهل الجنة يرحبون بهم أجمل ترحيب ، ” لهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ” .
9- ويعود الحاج إلى عمله في الدنيا يراقب الله سبحانه وتعالى ، ويعمل صالحاً ليبقى على صفائه ونقائه ، فيكون نموذجاً إيجابياً للمسلم العامل التقي الناصح ، ويثابر على حياته الزكية هذه حتى يلقى الله رضيّاً .. وفي جنة الخلد يعيش المسلم في أمن وأمان ، وجنة رضوان يتنعم بما أكرمه الله عز وجل ، يغدو في جنة لا تعب فيها ولا نصب ، وخير ما يلقاه في الجنة بعد أن نضّر الله وجهه ، ورزقه الطيبات أن يتجلّى ربه عليه فيزيدَ نضرة وبهاء ، وحُسناً وجمالاً . وأَلقاً وتألّقاً ” للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ” فالجنة هي الحسنى ، والزيادة رؤية وجه الله الكريم .. فطوبى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .