مقال 11- أثر مُكَوِّن العقيدة الإسلامية على الفرد-ج1 – حياتنا ثقافتنا
د. محمد محمود حوا
بعد أن عرفنا أن العقيدة الإسلامية هي المُكَوِّن الأول للثقافة الإسلامية، لا بد أن نبين أثر وجود هذا المكون في الثقافة الإسلامية على الفرد والمجتمع، وفي هذا المقال أستعرض أثر العقيدة كواحد من مكونات الثقافة الإسلامية على الفرد المسلم، ومن هذه الآثار:
1- تقدير العقل وهدايته:
كما كان العقل أحد مصادر العقيدة ابتداء، فإن العقيدة تعطي العقل مكانته وترعاه، وتهديه وتوجهه لأدلة العقيدة، لتترك للإنسان العاقل الحرية في اختيار معتقده بناء على الدليل دون إكراه أو إجبار، إذ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين} (البقرة:256). فيقدم البرهان والحق ويترك للإنسان حرية الاختيار بعد تقديم أدلة الإثبات والإقناع: }قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ{ (يونس: 108).
ولله در ابن القيم حين يشرح قوله تعالى: ]نُّورٌ عَلَى نُورٍ[[النور:35]، فيقول: “النور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورًا على نور، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع، والفطرة والوحي، فيريه عقلُه وفطرتُه وذوقُه الذي جاء به الرسول r هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة؛ بل يتصادقان ويتوافقان”([1]).
وتختصر العقيدة الإٍسلامية الطريق على العقل فتهديه وتقدم له إجابة كافية شافية على أسئلته حول وجوده، والتي تتمثل في: من أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ ولماذا خلقت؟ ومن خلقني؟ ففي آيات قليلة نجد الإجابة على كل هذه التساؤلات، كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الروم: 40).
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).
كما تهديه لإجابة الأسئلة حول هذا الكون، من خلقه ولماذا؟ لتؤكد أن الله خالق الكون ومسخره للإنسان، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (لقمان: 20).
وهذه الهداية للعقل تجعله سالماً من الوهم والخرافة محصّناً من الاستسلام للأساطير والشعْوذات؛ لأن الإيمان ينفي ذلك كله، إذ لا تعلق بغير الله، ولا اعتقاد نفع أو ضر إلا من الله، ولذلك بين الله الدليل العقلي في فساد عبادة العجل فقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} (طه: 89).
2- طمأنينة القلب وصفاء النفس:
قال تعالى: )هُوَ الَّذِي أَنـزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ([الفتح:4]، إن انشراح الصدر وطمأنينة القلب ثمرة حصول المعرفة الصحيحة بالله، حيث يتوافق الإيمان والفطرة، فنفس لا إيمان فيها مضطربة قلقة يتوالى عليها الهمّ والغمّ؛ قال تعالى: }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً{[طـه:124].
(والحياة المقطوعة الصلة باللّه ورحمته الواسعة، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال باللّه والاطمئنان إلى حِمَاه. ضنك الحيرة والقلق والشك. ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفَوت. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفُوت. وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب اللّه. وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوُثقى التي لا انفصام لها.. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان)[2].
فالمؤمن الموحِّد ينظر إلى الغيب بعين التفاؤل والرضا عن الله تعالى في قضائه وقدره، فيسكب ذلك الرضا في نفسه برد اليقين، ومشاعر الأمن والاطمئنان، على الرغم مما يتعرض له من مصائب في المال أو النفس أو الصحة أو غير ذلك، فيصبر على البلاء ويرضى بالقضاء لإيمانه بوعد الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155-156].
3- استقامة السلوك:
الاعتقاد السليم يرتبط به العمل الصالح والسلوك القويم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (يونس: 9).
فالله يهدي المؤمنين إلى الأعمال الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين اللّه، ويفتح بصائرهم على استقامة الطريق، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه[3].
وبسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلِّمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم[4].
ولذلك كان القرآن في مكة يركز على غرس العقيدة التي ستكون أساساً لتوجيه السلوك، فها هي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها تبين أثر الإيمان في العمل، وبيان أن العمل لا يقوم إلا بعد رسوخ الإيمان، حيث قالت رضي الله عنها: إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ -أي من القرآن- سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ. لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا. وَلَوْ نَزَلَ لاَ تَزْنُوا. لَقَالُوا لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا. لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَهُ[5].
4- الاعتزاز بالإيمان والتعالي على المغريات:
فالمؤمن الذي يؤمن بأن الله سبحانه {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الحشر : 23 ) ويؤمن ويوقن بقوله تعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} (يونس : 65) وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8)، ويؤمن بقول الله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر: 10).
وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها، وتبدل الوسائل والخطط أيضا! إن العزة كلها للّه. وليس شيء منها عند أحد سواه. فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره. ليطلبها عند اللّه، … إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية. وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين، وتعديل الحكم والتقدير، وتعديل النهج والسلوك، وتعديل الوسائل والأسباب! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً في وقفته غير مزعزع، عارفاً طريقه إلى العزة، طريقه الذي ليس هنالك سواه! إنه لن يحني رأسه لمخلوق ظالم متجبر. ولا لعاصفةِ طاغية. ولا لحدث جلل. ولا لمصلحة ولا لإغواء، ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً. وعلام يحني رأسه؟ والعزة للّه جميعا. وليس لأحد منها شيء إلا برضاه؟[6] وهو وحده وليّ المؤمنين.
([1]) اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم (ص14).
([2]) في ظـــــلال القرآن (4 / 2355)
[3] ينظر: في ظـــــــلال القرآن (3 / 1768).
[4] ينظر: تفسير السعدي (1 / 358).
[5] صحيح البخاري (4993).
[6] بتصرف عن الظـــــــــلال (5 / 2930).