معهد مكة المكرمة محطة رئيسة في حياتي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد : الزمان لا يثبت على حال، كما قال عز وجل :{ وتلك الأيّام نداولها بين النّاس }[ آل عمران : الآية 140 ]، وكما قال الشاعر :

هي الأمور كما شاهدتها دُولٌ                من سرّهُ زمنٌ ساءتهُ أزمان

والسعيد من لازم أصلاً واحداً على كلّ حال، وهو تقوى الله عز وجل، فإنه إن استغنى زانته، وإن افتقر فتحتْ له أبواب الصبر، وإن عوفي تمّت النعمة عليه، ولايضرّه إن نزل به الزمان أو صعد ؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير.

منذ نعومة أظفاري وسني دراستي الأولى وأنا أحلم أن أنال حظّاً ولو بسيطاً من علوم الدين والشريعة، لكنَّ دراستي في كلية الحقوق، والظروف المعيشية التي كنّا نمرُّ بها، وعدم توفر المناخ الملائم والبيئة الحاضنة، حالت دون ذلك، وقد بقي في النفس رغبة دفينة وطموحٌ عميق لتحصيل ولو نزراً يسيراً من العلوم الشرعية، فالرغبة متوفرة ولدي حافظة جيدة وذاكرة قوية بفضل الله، وإذا كنت أحفظ آلاف الأبيات من الشعر فلمَ لا أحفظ شيئاً من القرآن الكريم والحديث الشريف، ولم لا أتعلّم شيئاً من علوم ديني الذي به فلاحي في الدنيا والآخرة، ورحم الله الإمام الفقيه الشافعي القائل:

كلّ العلوم سوى القرآن مشغلةٌ              إلّا الحديثُ وإلاّ الفقه في الدين.

ثمَّ مرّت السنون والتحقتُ بسلك المحاماة سنة ١٩٩٥م، وفي سنة ١٩٩٨م اشتغلت بمهنة القضاء في محاكم محافظة دير الزور حيث استحوذ عملي كقاضي على كل وقتي وجهدي نظراً لازدحام العمل وكثرته، وبدأت رغبتي بتعلّم العلم الشرعي تتلاشى وتضعف مع زحمة العمل وأعباء الحياة وكثرة المسؤوليات والتقدم في السن.

عند قيام الثورة السورية سنة ٢٠١١م ترددت في تأييدها بشكل علني  في بادئ الأمر ليس حباً بالنظام المجرم، لكني آثرت السلامة والاستمرار في عملي القضائي رغم تأييدي الضمني لها، لكن تطور أحداث الثورة وارتكاب النظام المجازر بحق المدنيين وتهجير أهل السنة من مناطقهم وتدمير البنى التحتية لسوريا واعتقال أهل السنة وتصفيتهم في سجونه ومعتقلاته، لا لشيء، إلا لأنهم من أهل السنة، واستعانته بكل بالمحتلين والغزاة جعلني أحزم أمري وأؤيد الثورة وأنشق عن عملي كقاض في الدولة السورية.

أقمت في المناطق المحررة حتى عام ٢٠١٥م حيث اضطررت لمغادرة سوريا بسبب سيطرة الدواعش على المناطق المحررة حيث قدمت مدينة أورفا التركية وأقمت فيها.

في سنة ٢٠١٦ م أعلمني أحد الأخوة أنه يوجد في أورفا معهد علمي لنيل العلوم الشرعية يدعى ” معهد مكة المكرمة للعلوم الشرعية ” يُدرّس العلوم الشرعية بشكل متميز ومجاناً وأن مقرراته تقارب مقررات كلية شريعة وخلال مدة سنتين، والطاقم التدريسي من خيرة الأساتذة من حملة شهادة الدكتوراه والماجستير والإجازة في الشريعة، ونظراً لرغبتي القديمة التي لازالت كامنة في داخلي فقد انتسبت إلى معهد مكة بدون تردد وباشرت الدوام فيه.

كانت مدة الدراسة في معهد مكة سنتين، كل سنة مؤلفة من فصلين، ومدة الفصل ثلاثة أشهر، أما مقررات السنة الأولى فقد كانت ثمانية عشر مقرراً، وكل فصل تسعة مقررات.

انقضت الثلاثة أشهر للفصل الأول من السنة الأولى بسرعة مذهلة وأصبح الامتحان على الأبواب دون أن أحضّر جيداً له سوى ما علق في ذهني من محاضرات الأساتذة والمعلومات القديمة المحفورة في ذاكراتي منذ القديم ولم يبق على المادة الامتحانية الأولى سوى أسبوع فأصبت بهلع شديد وكدت أن أنسحب من المعهد بشكل نهائي لكن نفسي اللوّامة كانت تلومني وتقرّعني على الانسحاب فاستشرت زوجتي المعلمة وقلت لها : أود الانسحاب من المعهد، لكنها لامتني على ذلك وذكرتني بأن ذلك من الحرام الذي أوشك أن أقارفه وشجعتني على الاستمرار والتحضير للامتحان واستغلال كل دقيقة من الوقت المتبقي وقالت لي : ماذا ستكون نظرة الآخرين عنك إذا سمعوا بانسحابك من الامتحان وأنت القاضي المعروف عنك الجد والاجتهاد ؟

تشجعت كثيراً وباشرت الدراسة بشكل غير مألوف وصرت أدرس في اليوم أزيد من ست عشرة ساعة وواصلت الدراسة خلال الامتحان الذي استمر قرابة الشهر وحققت نجاحاً باهراً في مواد الفصل الأول، وكذلك مقررات الفصل الثاني الذي أعددت له بشكل أفضل من الفصل الأول فانتقلت إلى السنة الثانية دون أن أحمل أي مقرر من مقررات السنة الأولى.

في السنة الثانية من معهد مكة كانت المقررات ستة عشر مقرراً موزعة على فصلين، وقد أعددت لها بشكل أفضل من السنة الأولى وحصلت على معدل نجاح فيها وصل إلى ٨٩ بالمائة، ومن حيث النتيجة كان معدلي النهائي في معهد مكة 84.5 درجة وحصلت على المرتبة الثانية، أما المرتبة الأولى فقد حصل عليها أحد الأخوة الأفاضل المجدين.

كانت تجربتي في معهد مكة بعد هذا الزمن تجربة فريدة ورائعة ومثيرة أعادت لي ثقتي الكبيرة بنفسي وقدراتي، ونهلت فيها من ينابيع العلوم الشرعية ما تيسر لي وحباني الله به، حيث كان المنهاج شاملاً متنوعاً في علوم الشريعة كأصول الفقه والعقيدة والعبادات والأحوال الشخصية والمعاملات والجنايات، وكانت المقررات ميسرة ومفيدة وتعبر عن وسطية  الإسلام وكماله وشموله فلله الحمد والمِنّة على هذه المنحة العظيمة التي خفّفت عني بعض آلام المحنة التي نمرُّ بها حيث أن من  الرزايا عطاء، وأن من  المصيبات بعض النعم.

وقد ساعدتني دراستي في معهد مكة على تحرير بعض الأبحاث في القضاء الإسلامي، وقد شرفت بنشر بعضٍ منها في مجلة قضاة الشام المحكّمة.

في نهاية هذا المقال المتواضع أتوجه بالشكر الجزيل والتقدير الكبير لعمادة معهد مكة التي لم تبخل علينا بشيء من أجل بلوغ هذا الهدف الكبير، وأخص بالشكر الأخ الكبير مدير فرع أورفا الذي كان لنا نعم الأخ ونعم العون، فله منا كل الحب والاحترام، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

أورفا في ١٦ / 2 / ٢٠١٩ م.

                                     

 

 كتبه : القاضي عدنان الويس
                                  خرّيج معهد مكة المكرمة للعلوم الشرعية

قصة الطالب قدور مصطفى القاسم – فرع المعهد في ريف حماه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Close
Close سلتي
Close المفضلة
Recently Viewed Close

New here? Create an account

Great to see you here!

A password will be sent to your email address.

سيتم استخدام بياناتك الشخصية لدعم تجربتك في هذا الموقع، ولإدارة الوصول إلى حسابك، ولأغراض أخرى تم توضيحها في سياسة الخصوصية لدينا.

Already got an account?

Close

Close
Navigation
Categories