مقال 12- أثر مُكَوِّن العقيدة الإسلامية على الفرد – ج2 – حياتنا ثقافتنا
د محمد محمود حوا
عرفنا أن العقيدة الإسلامية هي مُكَوِّن رئيس من مكونات الثقافة الإسلامية، واستعرضنا في المقال السابق بعض آثارها على الفرد المسلم، ونتابع عرض بقية الآثار، ومنها:
5- بث روح الأمل الباعثة على العمل:
الصعوبات في حياة الإنسان كثيرة، والابتلاءات عظيمة، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} فهو في مشقة، فلا تلقاه إلا يكابد أمر الدنيا والآخرة[1]. لكن المؤمن لا ييأس أمام أي مشقة مهما بلغت، فهو يردد يوميا في صلاته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فيستعين بالله تعالى ويثق برحمته ويعمل وفق أمره سبحانه، وكأن نبي الله يعقوب عليه السلام يخاطبه قائلاً: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف: 87) فاليأس من رحمة الله لا وجود له مع الإيمان الراسخ والعقيدة الثابتة، التي يمتثل صاحبها قول النبي r: ” وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ“[2]، فلا مكان – عند المؤمن – لليأس المُقعِد عن العمل، ولا للقنوط القاتل للأمل، بل تراه دوماً عاملاً مغالبًا ومحاولاً ومتوكلاً وراضيًا.
6- طيب الحياة وسعادتها:
فبالإيمان وحده تطيب الحياة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) “إن الإيمان يثمر طمأنينة القلب وراحته، وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة، فإن أصل الحياة الطيبة راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشوشه مما يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح”[3].
وعيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه[4]:
الأول: أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير اللّه تعالى، وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يقدّر إلا الخير كان راضيا بكل ما قضاه وقدره، وعلم أن مصلحته في ذلك.
وثانيها: أن المؤمن أبدا يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدّر وقوعها، وعلى تقدير وقوعها يرضى بها؛ لأن الرضا بقضاء اللّه تعالى واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها.
وثالثها: أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة اللّه تعالى، والقلب إذا كان عارفاً بالله لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا.
ورابعها: أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الدنيا فانية فلا يعظُم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها، أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرَم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها.
وخامسها: أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه.
7- الثبات في الشدائد:
لقد وصف الله لنا في كتابه حال المؤمنين وحال غيرهم في الشدائد، فالمنافقون وصفهم الله بقوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (الأحزاب: 19) (وهي صورة شاخصة، واضحة الملامح، متحركة الجوارح، وهي في الوقت ذاته مضحكة، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان، الذي تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوّار)[5]!
أما المؤمنون فتزيدهم الشدائد إيماناً وثباتاً: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (الأحزاب: 22) ومصدر ثباتهم من إيمانهم بالله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27). ومن إيمانهم بقول النبي r: “وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ“[6]، ومن معرفتهم بطبيعة الحياة الدنيا الفانية {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185).
ومن حقائق الإيمان العظمى أن الموت والحياة بيد الله، ومن المسلّمات عند المؤمن أنه {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[لأعراف:34]، لذلك يثبت عندما يمتحن في إيمانه، فإذا وضعت حياته في كفة وإيمانه في كفة لم يخف ولم يجزع، بل يثبت ويستعلي بإيمانه كما فعل خبيب بن عدي t حين اجتمع عليه كفار مكة لقتله، وفي ذلك يقول:
لقد جَمّعَ الأحزابُ حَولِي وألّبوا … قبائلَهُمْ واستَجْمَعُوا كُلَّ مَجمَعِ
إلى اللهِ أشْكُو غُرْبَتي ثُمَّ كُرْبَتي … وما أرصدَ الأحزابُ لي عندَ مَصرعَي
فلستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِماً … على أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصرَعي
ولستُ بمبدٍ للعدو تخشُّعاً … ولا جزَعَاً، إنّي إلى الله مَرجِعي
ولسائل أن يسأل:
من أين يأتي الثبات للمؤمن؟
فيأتي الجواب من يقينه بإحدى الحسنيين، {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} (التوبة: 52)، فإن اجتازوا الشدة وانتصروا نالوا خير الدنيا، وإن ماتوا في سبيل الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون.
8- غرس الإحساس بالمسؤولية:
ذلك أن المؤمن يشعر بمراقبة الله تعالى ومخافته، ويعمل وهو يعلم أن الله عز وجل معه يراه ويعلم به ويراقبه، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: )عَالِمِ الغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ([سبأ: 3]، فيكون هذا الإيمان الشعوري الصادق كافيًا لتحفيز الإنسان نحو أداء الواجب والنهوض بالمسؤولية البشرية في كل مجال من مجالات الحياة، حتى مع غياب قوة السلطة والدولة التي تحمي القانون والأخلاق([7]).
والمسؤولية عظيمة لأن السائل والمحاسب هو رب الأرباب القائل سبحانه: }وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ{ (الأنبياء: 47).
9- رجاء الفوز في الآخرة:
فالمؤمن يوم القيامة موعود بجنة الرضوان، قال تعالى:]ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ[[فاطر:32-33].
قال الشنقيطي في تفسيره: “قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه، وهو يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارجًا عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين…، وقال بعضهم: قَدَّم الظالم لئلا يقنط، وأخَّر السابق بالخيرات لئلا يُعجَبَ بعمله فيحبط”([8]).
والجنة لا يدخلها إلا مؤمن موحد وإن ظلم نفسه بغير الشرك، ولا يخلَّد في النار إلا كـافر أو منـافق، ففي الحديث: “مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ“[9].
فالمؤمن إما أن يعامله ربه بفضله، فيغفر له بلا سابقة عذاب، ويمحقُ توحيدُه سيئاته، كما في الحديث القدسي: “يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة”([10]).
وإما أن يعامله بعدله، فيأخذه بذنبه، فيطهره منه ثم يؤول أمره إلى الجنة، وإذا دار الأمر بين فضله سبحانه وعدله، غلب فضلُه عدلَه، وسبقت رحمتُه غضبَه، وصدق الله القائل: ]قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[ (الزمر: 53).
[1] تفسير البغوي (8 / 430).
[2] رواه مسلم (4816).
[3] التوضيح والبيان لشجرة الإيمان للشيخ السعدي ص73.
[4] بتصرف عن مفاتيح الغيب (20 / 268)
[5] في ظـــــــــلال القرآن (5 / 2840).
[6] سنن الترمذي (2516) وقال حديث حسن صحيح.
([7]) الإنسان والدين (ص41-42).
([9]) رواه البخاري (5379)، ومسلم (138).
([10]) رواه الترمذي (3463)، وإسناده لا بأس به، وأخرج مسلم نحوه (2687) من حديث أبي ذر t.