سلسلة مقالات – حياتنا ثقافتنا – 5 –
خصائص الثقافة الإسلامية
بقلم: الدكتور محمد محمود حوا
ونقصد بخصائص الثقافة الإسلامية صفاتها التي تتميز بها وتنفرد عن غيرها من الثقافات، وسيكون حديثي عن أربع خصائص هي:
ربانية الأصول – التوازن والشمول – الواقعية – التأثير والفاعلية
أولاً: ربانية الأصول:
فقد سبق وبينت في مصادر الثقافة الإسلامية أن أول مصدرين لها هما القرآن الكريم والسنة النبوية، وهما وحي من الله تعالى، ولذلك تميزت الثقافة الإسلامية بخصيصة الربانية التي تتجلى في عدد من المزايا:
-
الحق الثابت المطلق: ذلك أن أصول الثقافة والمبادئ والمفاهيم والسلوكيات التي مصدرها القرآن والسنة الثابتة، هي حق كلها، وخير كلها، ونفع كلها؛ قال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الإسراء: 105)، فما كان أصله ثابتاً فإنه يبقى على استقامته، ولذلك “فالذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها”[1].
-
المعيارية الثابتة: فمادامت أصول الدين محفوظة فإن الرجوع إليها، مطلوب لتصحيح أي خلل، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59)، فما ليس له أصل ثابت فهو عرضة للانحراف والتغيير والتبديل، تحت تأثير الشبهات والشهوات، أو تأثير هيمنة الجهلاء، وقد أخبرنا الله كيف انحرفت الأمم السابقة، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم : 59 )، كما أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ” [رواه مسلم].
-
الرقابة الذاتية: إن الربانية تغرس في القلب تقوى الله وخشيته ومراقبته والحياء منه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ([آل عمران:100]، لأنهم يؤمنون بأن الله خبير بصير، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (آل عمران : 5)، فيفعل المؤمن كل ما يقربه إلى الله مما يحبه الله ويرضاه متمثلا درجة الإحسان: “أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ” [رواه البخاري ومسلم].
وتتجلى آثار هذه الخصيصة وهي ( ربانية الأصول ) في حياة المسلم في مظاهر متعددة، منها:
1- توافق الثقافة مع الفطرة: فلو كانت الثقافة مخالفة للفطرة فإن صاحبها سيعيش في صراع دائم، ذلك أن “القلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه”([2]).
2- تفعيل دور العقل واستثمار طاقاته: فالعقل مناط التكليف في الإسلام، أما ما ليس للعقل فيه مجال فقد نُهي الإنسان عن الخوض فيه، وكان الأمر فيه بالوقوف عند نصوص الوحي الثابتة، وبذلك حفظت الربانية طاقة العقل من أن تبدد فيما لا تقدر عليه، وأطلقت قدرات العقل في ميادين الحياة الرحبة للتفكير والإبداع في استخراج خيرات الأرض وعمرانها، وتنظيم شؤونها، والاجتهاد في الاستنباط من الكتاب والسنة، وبذلك يسلم العقل من الانحراف، وتستثمر قدرته في المجالات الرحبة النافعة.
3- طمأنينة القلب وسكون النفس: يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد : 28 ) فإيمانهم بالله رباً أصل في طمأنينتهم؛ لأن في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، …وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا[3].
-
إتقان العمل: لما كانت الرقابة الذاتية أحد تجليات الربانية في الثقافة الإسلامية، انعكس ذلك على إتقان المسلم المتمسك بدينه لعمله؛ لأنه قبل أن يراقب الناس يراقب رب الناس؛ لعلمه بأن الله يرى عمله، فيسعى إلى ما يحبه الله ويرضاه، وما أعظم إيمان ذلك الراعي الذي جسد تلك الرقابة سلوكاً واقعا في حفظ الأمانة والقيام بالواجب خير قيام، فعن زيد بن أسلم قال: مرّ ابن عمر رضي الله عنهما براعي غنم، فقال: يا راعي الغنم هل من جَزْرة [يطلب منه شاة للذبح]؟ قال الراعي: ليس ها هنا ربها، فقال ابن عمر: تقول: أكلها الذئب، فرفع الراعي رأسه إلى السماء، ثم قال: فأين الله؟ قال ابن عمر: فأنا والله أحق أن أقول: فأين الله؟ فاشترى ابن عمر الراعي واشترى الغنم، فأعتقه وأعطاه الغنم. [رواه الطبراني].
[1] تفسير السعدي – (1 / 425).
([2]) مجموع الفتاوى (10/194).
([3]) ينظر: مدارج السالكين (3 / 164).
إقرأ أيضاً:
الحلقة الرابعة من السلسلة
https://makkahacademy.orgacademy/our-life-and-islamic-culture-0004/