رابطة خطباء الشام
1- لابد للعقيدة أن تنتفض.
2- لا للعصبية الضيقة.
3- تمحيصٌ جديد.
4- تمحيصٌ أخيرٌ، وتسمو العقيدةُ بأصحابها.
5- وجاء النصر
مقدمة:
تجربة إيمانية عمليةٌ خاضها طالوت مع جنوده في مواجهة جبهة الطغيان جالوت..
تمحيصٌ من بعد تمحيصٍ من قبله تمحيصٌ، لتُثْبِتَ تلك التجربةُ أن التربية الإيمانية ينبغي أن تسبق التعبئة الجهادية، وبالفئة المؤمنة الصابرة ولو قلَّت يكون النصر والتمكين..
دروسٌ وعبر:
1- لابد للعقيدة أن تنتفض
قال ابن كثير: “كان بنو إسرائيل على طريق الاستقامة مدةً من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث، وعبد بعضُهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على التوراة، إلى أن فعلوا ما فعلوا.. فسلَّط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلةً عظيمةً، وأسروا خلقاً كثيراً، وأخذوا منهم بلاداً كثيرةً، بل واستلبوا منهم التابوت الذي هو موروث موسى، وأخذوا التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل”. [ 1 ]
وبعد زمن طويل انتفضت فيهم العقيدة من جديد، فطلبوا من نبيٍّ لهم أن يختار لهم ملكاً يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها موروثات أنبيائهم من أل موسى وآل هارون، فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال قال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا}[البقرة: 246].
استنكروا عليه هذا القول وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}، ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها وتهاوت على مراحل الطريق الشاقّ..
أيها المجاهدون.. أيها المؤمنون الصابرون المصابرون: إنه ما ينبغي لحماستكم أن تنطفئ، ولا لقوتكم وعزيمتكم أن تخبو وتتهاوى على هذا الطريق، فالطريق كله امتحان وتمحيص، ولن يثبت ويفوز في النهاية إلا ثلةٌ قليلةٌ كأصحاب طالوت وسيسقط الكثيرون..
فافتحوا أسماعكم وأبصاركم وقلوبكم وخذوا دروساً وعبراً مما ستسمعون.
لما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال قال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا}، فلما استنكروا عليه هذا القول وارتفعت حماستهم كتب الله عليهم القتال، ولكن شأنهم كشأن الكثير {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، وهذا هو التمحيص الأول.
ومع أن لبني إسرائيل طابعاً خاصاً في نقض العهد، والنكوص عن الوعد، والتفرق في منتصف الطريق، إلا أن هذه الظاهرة ظاهرةٌ بشرية على كلِّ حالٍ، وتظهرُ في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغاً عالياً من التدريب..
وعلى الرغم مما اعتورَ هذه التجربة من نقصٍ وضعف ومن تخلي القوم عنها فوجاً بعد فوجٍ في مراحل الطريق، على الرغم من هذا كلِّه فإن ثبات حفنةٍ قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمةٍ جداً، فقد كان فيها النصر والعز والتمكين بعد الذل والمهانة والتشريد الطويل، ولقد جاءت لهم بملك داود ثم ملك سليمان، وهذه أعلى قمةٍ وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض وهي عهدهم الذهبي الذي لم يبلغوه قبلُ في عهد النبوة الكبرى، وكان هذا كله ثمرة انتفاضة العقيدة من تحت الركام، وثبات حفنةٍ قليلةٍ عليها أمام جحافل جالوت.
2- لا للعصبية الضيقة
اختار الله لبني إسرائيل ملِكاً، فماذا كان؟ {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247].
قال عكرمة والسُّدي: “كان سقَّاءً”، وقال وهب بن منبِّه: “كان دبَّاغاً”، وقيل غير ذلك.
ولقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوَى، وأن المُلْكَ كان في سبط يهوذا، فلما كان هذا المَلِكُ من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا في إمارته، وقالوا: نحن أحقُّ بالملك منه، وذكروا أنه فقيرٌ لا سعة له من المال..
هي نفسها اليوم تتكرر، فلكم مرت علينا من أيام شداد تشيب لها مفارق الرؤوس ولم نجتمع بعد على قائد واحد يقودنا لقتال عدونا..
ألفُ أميرٍ.. وألفي قائدٍ.. وآلاف يشتهون القيادة.. ولسان الحال يقول: أنا أحقُّ بالقيادة منه، ومَنْ فلانٌ حتى يتأمر علينا؟! وفلانٌ فقيرٌ، وفلانٌ لا صيت ولا جاه، ألم تسمعوا حديث رسول الله يناديكم: (طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ). [ 2 ]
لما تنكر بنو إسرائيل لأمر الله وقالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا}، جاءهم الجواب من نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}، إنه اختيار الله، وهو أعلم بالمصالح منكم، وعمدة الاختيار أمران، لا جاه فيهما ولا مال، ولا قبليةٌ ولا فصائلية، ولا صيت ولا عشائرية..
وإنما أمران:
العلم: ليتمكن به من معرفة أمور السياسة والعسكرة وإدارة المعارك.
وقوة البدن: ليعظُمَ خطرُه في القلوب.
بعد ذلك قالوا لنبيهم: إن كنت صادقاً فأتنا بآية تدلُّ على أنه ملك، فخيّرهم نبيهُم أيَّ آيةٍ يريدون؟ فقالوا: أن يردَّ علينا التابوت، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248].
والتابوت هو صندوقٌ عليه صفائح من ذهب كما قال ابن عباس، وفيه السكينة والوقار وفيه بقيَّةٌ من آثار آل موسى وآل هارون وهي عصا موسى وثيابه وبعض الألواح التي كُتِبَت فيها التوراة.
قال ابن عباس: “جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت”.
3- تمحيصٌ جديد
لقد علم طالوت أنه سيواجه جيشاً جراراً، يفوقهم عدَّةً، ويكثُرُهم عدداً، فيه رجالٌ أشداء أقوياء، وعلم طالوت أيضاً أن جيشه من أمةٍ مغلوبةٍ عرفت الهزيمة والذلَّ تاريخاً طويلاً، فلابدَّ إذاً من قوةٍ كامنةٍ في ضمير هذا الجيش حتى تصمد أمام قوة جيش جالوت، وهذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة.. الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاقّ، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثرُ الطاعة وتكاليفها، وتجتاز الاختبار بعد الاختبار.
إذاً فالصمود عباد الله لا يكون للعدد والعدة والقوة، وإنما يكون بذلك الإيمان الكامن في النفوس، فإذا استيقظ صار كالمارد يحطِّمُ رؤوس الطغاة.
خرج طالوت بجيشه وكانوا ثمانين ألفاً، فاختبرهم وقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، وهو نهر الشريعة بين الأردن وفلسطين كما قال ابن عباس، {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}، أي فلا يصحبني، {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}، أي فلا بأس عليه، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}، وهنا يتنقى الصفُّ من جديد ويخرج منه آلاف مؤلفة انقلبوا على أعقابهم.
قال ابن عباس: “من غرف منه بيده روى، ومن شرب منه لم يروَ، فشرب ستةٌ وسبعون ألفاً وتبقى معه أربعةُ آلاف”.
وروى البخاري عن البراء بن عازب قال: “كنا نتحدث: أن أصحاب بدر ثلاث مائة وبضعة عشر، بعدة أصحاب طالوت، الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن”. [ 3 ]
انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم، وكان من الخير أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف؛ لأنهم بذرةُ ضعفٍ وخذلانٍ وهزيمةٍ.
وها هو الجيش العرمرم يتقلص ويتخلص من المنافقين والمخذلين والمنهزمين ليصبح أعدادً قليلة ستواجه اختباراً آخر.
4- تمحيصٌ أخيرٌ، وتسمو العقيدةُ بأصحابها
وبعد ذلك التمحيص الذي كان، أتبعه الله بتمحيصٍ آخر حتى يتنقى الصفُّ بالكامل، ولا يكون فيه إلا من كان أهلاً للنصر..
فلما خرجوا إلى الساحة، واستشرفوا للقتال لمحوا من أعدائهم رجالاً أشداء، ما فيهم إلا ابن كريهةٍ، وخوَّاضُ غمراتٍ، يَفْضُلونَهم أُهْبَةً، ويفوقونهم عدَّةً، وجالوتُ شجاعُهم وكبشُ كتيبتهم يصول بينهم ويجول.. وانقسم أصحاب طالوت شعبتين:
شعبةٌ منهم خار عودهم: وانخلع فؤادُهم، وتخاذلت قوتهم، وقالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249].
وانخذل هؤلاء عن الجيش المؤمن، حالهم كحال أي منافق اليوم في المعركة بين الكفر والإيمان، ينقطع في وسط الطريق، بل ولا يكتفي بذلك، وإنما يخذِّلُ ويُثبِّط.
وشعبةٌ منهم ظلت صابرة صامدة: هم الذين عمرَ قلبَهم الإيمانُ، وأُشرِبوا في قلوبهم حبَّ الله، واستعدوا للموت، ولم تزعجهم كثرةُ أعدائِهم، ولم تردعهم قلةُ عددِهم،{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، ولكنهم أمام واقعٍ يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته، ولكنها التجربة الحاسمة، تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أقوى من قوة الواقع المنظور، إنها قوة الله الغالب، مصدر القوى ومنشئُها، الله القاهر فوق عباده، محطِّمُ الجبارين، ومخزي الظالمين، وقاهر المتكبرين.
قال الرازي: “أما قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}، المراد منه: تقوية قلوب الذين قالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، والمعنى: أنه لا عبرة بكثرة العدد، إنما العبرة بالتأييد الإلهي، والنصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة”. [ 4 ]
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
ولما جاءت المنحة قال الله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
إنه الاعتزاز بقوة الله الذي بيده قلوب أولئك الأعداء كقلب رجلٍ واحد يقلبها كيف يشاء، كما قال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
فقلوبهم بيده يقذف فيها الرعب والوهن إن رأى منكم طاعة، ويقذف فيها القوة إن رأى منكم معصية..
وقلوبكم أنتم أيضاً بيده يقذف فيها القوة إن رأى منكم طاعة، ويقذف فيها الوهن والضعف إن رأى منكم كثرةً وتشرذماً وتفرقاً ومعصيةً.
5- وجاء النصر
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، وظهروا في الفضاء المتسع وجهاً لوجه أمام ذلك الجيش الجرار جيش جالوت المدرَّبِ على الحروب، دعوا الله بثلاث دعواتٍ تفيدُ إدراك أسباب النصر، {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، هذه الفئة المتصلة بالله هي التي تحدد مصير المعركة، بعد أن تُجَدِّدَ عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده وهي تواجه وحدها ذلك الهول الرعيب.
يا له من مشهد يتكرر اليوم بفئة مؤمنة صابرة تواجه أعتى جيوشَ أمم الكفر، وأحدث الأسلحة، ويجتمع عليها من بأقطارها، تواجه ذلك وحدها، ولكن ينقصها الضراعة والتعلق بالله أكثر، {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43].
بعد تلك الضراعة جاء النصر الموعود، {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
وداود كان فتاً صغيراً من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مخوفاً، ولكن أراد الله أن يجعل مصرع ذلك الجبار الغشوم على يد فتىً صغير ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعافٌ يغلبهم الفتيةُ الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.
قال ابن كثير: “وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفَّى له، ثم آل المُلْكُ إلى داود وورثه ابنُه سليمان، وكان ذلك العهد هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود”.
عباد الله: بمثل تلك الفئة ينتصر المؤمنون، تلك الفئة التي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما في يد الله وحده، فتطلب منه النصر، وتنالُه من اليد التي تملكُه وتعطيه..
وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقاً، وهكذا يثبتُ أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدقُ من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون.
ونحن اليوم نقف وقفة إجلال وإكبار للشباب التسعة الذين أعدمتهم يد البطش والعنجهية في مصر هذه الأيام، ونرى ذلك سبيل تمحيص يتبعه نصر وتمكين بإذن الله.
اللهم ارحمهم وتقبلهم في الشهداء عندك، اللهم اخلفهم في أهلهم خيراً وأبرم لهذه الأمة أمراً رشدا.
========
1 – مختصر تفسير ابن كثير 1/411 بتصرف
2 – البخاري: 2886
3 – البخاري: 3959
4 – التفسير الكبير 6/157