لا يخفى على المرء في هذه الأيَّام أنَّ التَّعليم بمختلف مراحله وتنوُّع فروعه يشكِّل دِعامة رئيسةً من دعائم المجتمع، بل لعلَّها أهمُّ دعامة على الإطلاق لِمَا في التَّعليم من دور رياديٍّ في بناء أفراد المجتمع وتربيتهم التَّربيةَ الاجتماعيَّة التي يُعدُّ فيها الفرد اللَّبنة الأساسيَّة، فللتَّعليم والتَّربية أثرٌ كبير في تكوين شخصيَّة الإنسان، لِيرقى بنفسه إلى مُستوى إنسانيٍّ متقدِّم، ولهما أيضاً هدفٌ إصلاحيٌّ ظاهريٍّ وباطنيٍّ، ولولا ذلك الهدفُ النَّبيل لَمَا أرسل الله نبيَّه محمَّداً، عليه الصَّلاة والسَّلام، فقد قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رسولاً منهم يَتْلُو عليهم آياتِه ويُزَكِّيهم ويُعَلِّمُهُم الكتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضلالٍ مُبِيْنٍ ﴾ [الجمعة:2]، فتزكية النَّفس وتهذيبها أهمُّ هدف للتَّعليم، إذ تعلو النَّفْس عن الأمور الماديَّة والمعنويَّة، ثمَّ يأتي بعد التَّزكية وتنمية الرُّوح والقلب العلمُ بكلِّ أنواعه وتخصُّصاته لِيُنير العقول ويحفظَها من الانحدار والضَّياع والضَّلال. ولِمكانة العلم العظيمة في المجتمعات ولِدوره البارز في تطوُّرها أكَّد البيان الإلهيُّ ذلك مرَّاتٍ كثيرة، فقد وَرَدَت آيات قاربت الألفين، وكلُّها تركِّز على أهمِّية العلم ودور العقل في التَّربية والتَّقويم، بدءاً من أوَّل آية نزلت تحثُّ على القراءة المطلقة، والتَّأمُّل في المُكَوَّنات كلِّها.
وإذا ما تأمَّلنا في نظم التَّعليم في جُلِّ بلداننا، فإنَّنا لا نرى فيها غير التَّشتُّت والتَّأخُّر، ولعلَّ آفاتِنا الاجتماعيَّة مردُّها إلى ضَعْف الأنظمة التَّعليميَّة وسياسات التَّعليم، فيكاد أثر مُخرجات التَّعليم لا يُرى، سواء على صعيد الفرد أو المجتمع، إذ غالباً ما يكون التَّعليم مُنفصلاً عن الأخلاق التي ينبغي أن تكون ضابطاً ومعياراً رئيساً في قياس أثر التَّعليم في المجتمع، فالعلم والأخلاق صِنْوانٌ، وكم رأينا من صور ما تزال ماثلةً أمامنا عن بعض المُنحرفين بالعلم عن غاياته النَّبيلة، من غير أن يتحرَّك فيهم شعور بحجم مسؤوليَّاتهم الاجتماعيَّة، فقد يكون الإنسان طبيباً، ولكنّه دون انضباط أخلاقيٍّ، فيُبيح لنفسه ما لا يَسُوغُ في العلم والدِّين، وقد ترى فقيهاً يُسَخِّر فقهه ومعرفته لتحقيق مكاسب معنويَّة وأخرى ماديَّة محرِّفاً بذلك النَّصوص ومخرجاً لها عن وَجْهِها السَّليم، وقد نرى أديباً يتَّجِه بأدبه إلى قضايا لا تبني مجتمعاً، بل يكون بما يكتبه مِعْوَلَ هَدْمٍ لِمَا ينشره من أفكار فاسدة، وتأييده بعضَ التيَّارات المُنْحَرفة، ولا يغيب عن عاقل أنَّ مجتمعنا اليوم مجتمعٌ يَمُور بمفاسدَ شتَّى يصعُب حصرُها أو إحصاؤها، فالبرامج في بعض القنوات الفضائيَّة غير هادفة، وبعض المواقع الإلكترونيَّة غير نافعة، وغير ذلك ممَّا لا يتَّسع المجال لذكره، وما عَلِمْنا وما لم نعلم!
إنَّ المجتمعات لا تزدهر ولا يعلو شأنها إلَّا بتهذيب نفوس أبنائها وتمثُّلِهم الأخلاق الفاضلة، كالإخلاص والصَّبر والأمانة والصِّدق والتَّعاون وغيرها، واجتثاث الفاسد منها في نفوسهم، وإعلانهم الثَّورةَ على كلِّ خُلُقٍ ذَمِيم، كالأنانية والنِّفاق والغُرور والكذب والحَسَد والتَّعصُّب، فإذا تعوَّد أفراد المجتمع الأخلاق الحسَنَة، إضافةً إلى العلوم المختلفة التي تُسْهم في بناء بُلدانهم، فإنَّهم سيشكِّلون مُنْطَلقاً رئيساً في نهضة أمَّتهم، أمَّا إن تعوَّدوا الأخلاق المذمومة، وتركوا العلم- الذي هو عامل استمرار حياة الدُّول ورُقِيِّها- فإنَّهم سيغدون عبئاً ثقيلاً تنوء به بلدانهم، وخطراً يتهدَّد أمَّتهم.
ولكلَّ ما سبق فإنَّ النُّظُم التَّعليميَّة في بلداننا العربيَّة والإسلاميَّة مُطالبة بالتَّركيز على غرس فَسَائل الفضائل الكريمة في نفوس الطُّلاب بمختلف مراحلهم الدِّراسيَّة، ثمَّ عليها أن تتعهَّدها بالرِّعاية إلى أن تثمر خيراً عميماً على الأسرة والمجتمع والأمَّة، فتغدو تلك الأخلاق مَلَكَةً قِوامُها الصِّدق ونُبْلُ الأخلاق، فإذا ما هيَّأت تلك النُّظُم المعلِّمَ المُخلص ودَعَمَتْهُ بكلِّ أشكال الدَّعم الماديِّ والمعنويِّ، فكانت له خيرَ مُعين وسند له في أداء مَهمَّته ومسؤوليّته، فلا شكَّ أنَّه سيحقِّق أهدافها التي تُنْشد نهضة الأمَّة من وَهْدة التَّخلُّف وكَبْوَة الضَّعف والتَّشتُّت.
إنّ أساسَ المجتمع الطّلاب، وإنّ الأساسَ الذي يرتكزُ عليه هذا الأساسُ هو المعلّمُ أوّلاً وآخراً، والمعلّم الحقُّ هو الذي يتمثَّل قول النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم: ( ألا كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته)، يسعى جاهداً لإعداد جيلٍ واعٍ، متسلّحٍ بالعلم والمعرفة، مُتمتّعٍ بالسُّلوك الحَسَنِ والخُلقِ النبيلِ، سليمِ الفِكْرِ والعقل، مُتوازنِ الشّخصيّة، نافعٍ مجتمَعهُ، محبٍّ وطنَهُ، مُقْتدٍ بنبيّه محمّدٍ، صلّى الله عليه وسلّمَ.
فبِقَدْرِ ما يكون المعلّم صالحاً، مُخلصاً في عمله، محبّاً وطَنَهُ، مُراقباً وجهَ ربّهِ بقدر ما يُخرّج طلّاباً غَيورينَ على وطنهم، مُحبّين له مُخلِصين، مُتطلِّعين إلى بنائه وسُمُّوه، فالمعلّم هو المعنيُّ أوَّلاً بتعليم الطّلَّاب التَّفكيرَ العلميَّ الصحيحَ، إضافةً إلى تعليمِهِم المَنْطقَ والأُسُسَ العلميّة الأَصيلة، وعليه أنْ ينصحَهُمْ بالابتعاد عن المعاصي، ويوصيَهُمْ بتقوى الله، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ واتّقوا الله ويعلّمكم الله﴾ [ البقرة: 282 ] فَقَرَن العلمَ بالتَّقوى .
We use cookies to ensure that we give you the best experience on our website. If you continue to use this site we will assume that you are happy with it. Privacy PolicyAccept