تعدّ الصّحّة النّفسيّة من أسمى مقاصد الإسلام، لما لها من دور في إصلاح الفرد وتأهيله لخدمة المجتمع فيما يعود عليه بالنّفع العميم، وهكذا قصدت التّشريعات الإسلاميّة إلى تخليص الإنسان من كل ما يمكن أن يجعله فرداً سلبياً، وسعى الإسلام من خلال تشريعاته إلى تهذيب النّفس وتخليصها من أدران الشّر ونوازع الباطل، وجعلها بذلك سليمة، معافاة، قويّة، قادرة على الفعل الإيجابيّ والإصلاح المجتمعي، تمهيداً لأن يكون المسلم مواطناً صالحاً.
ويهتمّ الإسلام اهتماما كبيراً في ميدان الوقاية الصّحّيّة، ويأتي البرنامج اليومي الإسلامي زاخراً بوصايا عديدة فرضها الإسلام حتى تكون اللبنات الأولى القويّة لبرنامج حياة يقي المسلمين من المرض سواء الجسميّ أو النّفسيّ أو الاجتماعيّ.
وسأحاول: أن أجمع في هذه المقال اتّجاهات الإسلام الوقائيّة والعلاجيّة والاستشهاد بالآيات والأحاديث النّبوية الدالّة عليها، وسأبدأ بالوقائيّة منها، وحسب مراحل العمر المختلفة والله الموفّق.
القواعد الوقائيّة الّنفسيّة في مراحل العمر:
قبل الزواج :
ا- يحض الإسلام. على اختيار الزّوج والزّوجة المناسب أحدهما للآخر.
2- ويرغّب الإسلام بالزواج المبكّر ويدعو إلى الصّوم، والصّبر عند عدم الاستطاعة للزّواج. ولا شكّ أن ذلك يؤدي إلى عدم تعرّض الشّباب للأمراض الجنسيّة.
قال: صلى الله عليه وسلم ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”، وفي ذلك أحسن السّبل للوقاية من الانحراف والمرض النّفسي.
3- ينهي الإسلام عن الفحشاء والمنكر والبغي، وكذا الزنا، قال تعالى: “ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً “.
التّربية النّفسيّة للنّشء:
اهتمّ الإسلام بمعاملة النّساء وجعلهنّ موضع اهتمام الزّوج، وأوصى بهنّ صلّى الله تعالى وسلّم عليه في خطبة الوداع، حتى يقمن بدورهنّ الهام في التّربية النّفسيّة للنّشء في هدوء ويسر، ويضع الإسلام للتّربية النّفسيّة لدى الأطفال قواعد شتّى منها:
ا- أن تكون الرضاعة من ثدي الأم فإن لم تستطع فالرضاعة من ثدي أخرى، قال تعالى: ” وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى “، ( دل ذلك على تمام الاستقرار النّفسي بعيدا عن الرضاعة الصّناعية).
2- ويهتم بفترة الرضاعة المشبعة ويقول الله تعالى: ” والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين “
ويوصي الإسلام بحضانة الطّفل وجعلها حقاً للحاضن وهي الأم المطلّقة والمحضون وهو الطفل بحيث تقوم الأم على حضانة ابنها، وعلى الأب أن يدفع الأجر وفي ذلك حماية من آثار الانفصال بين الأم وابنها، هذا الانفصال المبكر المدمّر للصّحّة النّفسيّة… وقد ثبت علمياً وصدرت توصيات الهيئات العالمية الصحية بأهميّة الرضاعة من ثدي الأم.
3- ويحضّ الإسلام على المساواة في معاملة الأولاد في كل شيء حتى في التقبيل، وبهذا لا يقلق الأطفال ولا يعانون من التّوتّر والخوف والمشاكل النّفسيّة المختلفة، قال تعالى: “وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتق، الله وليقولوا قولاً سديداً “.
4- ويعطي الإسلام دوراً هاماً للّعب مع الأطفال، لما له من دور هام في التّربيّة الّنفسيّة خاصة في سنين العمر المبكّرة.
الأسرة المستقرّة نفسيّاً:
يوصي الإسلام بالأسرة المستقرّة وينهى عن الانفصال بين الأزواج، ويضع قواعد الاستقرار ويضيّق فرص الطّلاق إلى أبعد درجة، وعند بدء الشّقاق والخوف من استفحاله في الأسرة يتدخّل كبار أعضائها بالتّوفيق بين الزّوجين حفاظاً على كيان الأسرة واستقرارها النّفسي الهام، قال تعالى: “وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما “.
ووضع الإسلام للأسرة مسؤوليّات وحمّل كلّ أعضائها قسطاً من هذه المسؤوليات، قال صلى الله عليه وسلم : “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته “.
وحمّل الأبناء مسؤوليّة احترام الآباء والعطف عليهم، وقرن عبادة الله عز وجل بالإحسان للوالدين في قوله تعالى: ” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً “.
وهذا هو قمّة الحفاظ على العلاقات الأسريّة لما لها من أهميّة في الصّحّة الّنفسيّة.
الرّعاية النّفسيّة للمعمّرين:
رعى الإسلام كبار السنّ ووضع واجبات على الأبناء لرعاية آبائهم المسنّين، قال تعالى: “إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاها فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذّل من الرّحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً “.
البرنامج اليومي للمسلم كاتجاه وقائي للصّحّة النّفسيّة:
ا- إن الاستيقاظ المبكر يحث على أن يبدأ المسلم العمل مبكراً وأن ينتهي من عمله اليومي مبكراً بحيث يتم إنجاز العمل في أنسب ساعات النّهار.
2- يتم البرنامج اليومي في إطار جماعي(صلاة الجماعة) مما يتيح البعد عن الانطواء ، وينمّي لدى المسلم فرص احترام القيم . وهكذا نجد أن ارتباط الشخص بالجماعة يولد لديه شعوراً بالانتماء والتعاون فيسهل عليه أداء الأعمال المطلوبة منه مما يخفف من القلق والتّوتّر.
3- إن هذا البرنامج اليومي يجعل المسلم مندمجاً في عدد من الأنشطة الجسميّة والنّفسيّة المترابطة، مثال ذلك أنّ الصّلاة تقتضي القيام ب: الوضوء وحركات الجسم أثناء الصّلاة والتّركيز في معاني القرآن الكريم وما ينجم عن ذلك من إيمان وأمل.
كل، هذا يؤدي إلى نوع من الارتباط الذي يساعد على تقليل القلق والتّوتّر والتّخفيف من حالات الاكتئاب إن وجدتا، وهكذا نجد أن الصلاة تستتبع القيام بأنشطة تجلب الراحة الجسميّة والنّفسيّة، وهي تتكرر خمس مرات كل يوم عندما يصل الإجهاد أقصاه في هذين المجالين، يقول تعالى: “فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا “.
4- إن هذا البرنامج اليومي ييسّر عمليّة التّفريغ والاعتراف بالذنب في جو من الأمان النّفسي، ذلك لأن المسلم يشعر أنّه في رعاية خالقه وعنايته وأنّه جلّ شأنه رحيم به يكلؤه بعين عنايته وغفرانه، إنّ هذا الشّعور بالأمان والثقة بالله تعالى وعدالته المطلقة تقضي على أي شعور بالضّيق والذّنب الذي قد يواجه المسلم في حياته اليوميّة. يقول تعالى: ” وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم “.
5- إن اللقاءات الجماعيّة للحجّاج الذين يجمعهم برنامج واحد تنمّي الرّوابط العاطفيّة بينهم، وتزيد من شعورهم بالأمل والتّفاؤل. وهكذا يتم علاج تلقائي ذو طبيعة نفسيّة لكل من هو بحاجةٍ إليه.
6- إن هذه اللقاءات لا تهمل النّاحية التّرفيهية، بل تشجع على مزاولة الرّياضة والصّيد والسّفر …….الخ. يقول تعالى: “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا “.
الطرق العلاجية النّفسيّة الإسلاميّة:
دور العقيدة في العلاج:
إنّ الإيمان بالله وعبادته أصل الطّمأنينة التي هي نور غيبي يُقذف في القلب محققاً الشّعور بالتّوازن، والإيمان في عمقه شعور بمعيّة الله، لذلك كان أكثر الأسباب تحقيقاً للصّحّة النّفسيّة التي تقوم على الطّمأنينة، وإذا كانت الصّحّة كما تعرفها منظمة الصّحّة العالميّة هي تكامل صحّة الجسم والنّفس والمجتمع، فالصّحّة في مفهوم القرآن الكريم هي التّكامل بين صحّة الجسم والنّفس والمجتمع في إطار من الأخلاقيات والمثل وهذا البعد الروحاني هو بعد علاجي هام.
الذّكر:
الذّكر عبادة يومية يمارسها المسلم، تشحنه بطاقة إيجابيّة مصدرها خفي، وتبعث في النّفس حياة وقوّة، وبهذه العبادة ترتاح القلوب، قال تعالى: ” أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب”.
الصّيام:
الصّوم أحد أرقى العبادات، به تُروَّض النّفس، ويتحقق الصّفاء النّفسي النّاتج عن راحة المعدة والقلب، وما يتبعه من تخلّص الجسم مما هو مضر، والصّوم أكثر العبادات تحقيقاً للرّاحة النّفسيّة وتكريساً لخلق الصبر والقناعة والإحساس بالآخرين لمن صام تعبداً لا عادة. إنه عيادة مجانيّة ورياضة نفسيّة، قال صلّى الله عليه وسلم: ” الصّوم جنة “، على الإطلاق، فلم يحدد الوقاية أو الحماية جاعلاً إياها محتملة لكل ما من شأنه أن يؤذي الجسم والنّفس.
الحث على التّوبة:
ولما كان التّوازن بين طاقات الإنسان النّفسيّة له أثره على الصّحّة النّفسيّة، وكان الإنسان بطاقة نفسه الطّينيّة الأمّارة بالسّوء يطلب الاسترسال في شهواتها، وبطاقة نفسه الرّوحيّة اللّوّامة يطلب الرقيّ والبعد عن الشّهوات طالباً لمباهج الرّوح، وكان هذا الصّراع صراعاً دائما، ينبغي في ميدان الصّحّة النّفسيّة العمل على التّوازن بين هذه الطاقات، ويكون ذلك بالتّوبة، ويصبح هذا التّوازن سمة الاستقرار والبعد عن القلق والتّوتر والاكتئاب، ويستقر الخلاف بين نفسه الامّارة ونفسه اللّوامة.
الصّحبة الطّيّبة الصّالحة والأسوة الحسنة:
الصّحبة الطّيبة والأسوة الحسنة كل هذه معالم على طريق التّربية تبعد الإنسان عن الانحراف والتوتر والمرض.
بقلم: أ. حيان النمر
مدرس مادتي: أصول التربية الإسلامية وطرائق التدريس في أكاديمية ومعهد مكة المكرمة / فرع مرسين